يطرح واقع عمل منصات التواصل الاجتماعي الكثير من المعطيات التي ينبغي على المجتمع الدولي أن يتيقظ لها ويتنبه لمخاطرها ويتدارك مساوئها وأضرارها على هوية الشعوب وثقافتها وسيادة الأوطان وأمنها واستقرارها وتقدمها وازدهارها، كونها أصبحت عاملا معطلا للتنمية، والطريق السهل الممتنع لتخريب الأوطان والتناحر بين مواطنيها، في ظل الانحرافات التي التصقت بجدارها، والتوجهات الفكرية والأيديولوجيات الشخصية والمذهبيات العدوانية والسياسات العدائية التي وجدت فيها بيئة سهلة لنموها واتساع انتشارها، وهي في كل أحوالها تغرد خارج سرب الفضيلة، وتتجه بالإنسانية إلى سلوك الغوغائية والاندفاع والضعف والوهن وتكريس لغة الكراهية وثقافة الفردانية وسلطوية الرأي وفرض لغة الأمر الواقع على الآخر المختلف، مستغلة عواطف الناس مجيشة فكر الشباب واستخدامهم كدروع بشرية للنفاذ عبر هذه المنصات إلى أهدافهم الدنيئة، خصوصا في ظل احتوائها لفئة الشباب وطلبة المدارس والجامعات، أكثر الفئات التي تتعامل معها وأكبر شريحة يتجه إليها خطابها، بهدف إشغال الشباب عن أولوياته ومسؤولياته وإعطاء مساحة أكبر للدخول في نقاشات لا تنتهي ومجادلة غير مجدية تستهدف استنزاف الطاقات الفكرية وفرض الرأي الواحد ومصادرة الفكر والتشويش على الفكر السليم وتوجيههم إلى الاهتمام بغير قضايا المرحلة إلى غير ذلك مما بات يرسم مرحلة جديدة تضع هذه المنصات في المواجهة العالمية القادمة، بما تسببه من تحديات فكرية تدق ناقوس الخطر بما تصنعه من تشويش ذهني وتذبذب فكري وضبابية في المعلومات والأفكار التي يتلقاها الشباب، وتغرسه من سلوك الفوقية والاختلاف والعشوائية والاندفاع والأحكام المسبقة التي تقصي المجتمع عن مسؤولياته وأولوياته وتوجيهه نحو سطحية الفكر ونمطية التفكير وأنانية الأسلوب وتكرار الأدوات وضآلة البعد الأخلاقي والقيمي الذي يضبط محتواها ويرسم ملامحها ويطور من أدوات المحتوى الذي تحمله لمجتمع الشباب والمتابعين لهذه المنصات، وما تحمله في بنيتها الفكرية من فرضية التأثير السلبي القائم على تعميق فرص الاختلاف والنزوغ نحو الإشاعة وتأجيج الأفكار الهامشية التي قال عنها نبينا الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم “دعوها فإنها منتنة”، وما يتبع ذلك من استحمار فكر الشعوب وإرهاق لمسامعها بقضايا وأحداث ومساحات من العراك والتنابز والسباب والشتم واللعن والقذف وشخصنة الأحداث مما يتنافى مع كل المبادئ الإنسانية ويتناقض مع الغايات التي جاءت بها هذه المنصات في تعزيز منهج التعارف والتواصل الإنساني والحوار بين الجنس البشري، وما يدعو إليها الفكر الإنساني الناضج والمعتدل والثقافات البشرية الأصيلة من حوار الحضارات وتفاعل الثقافات وتعزيز المشتركات القيمية والأخلاقية وتأصيل المؤتلفات البشرية.
وإذا كان عالمنا اليوم يعيش أحداث فيروس كورونا (كوفيد19) كأعظم جائحة خانقة في تأريخه المعاصر وما فرضته على واقعه من أحداث وقضايا ومتغيرات وظروف اقتصادية واجتماعية وسياسية وصحية؛ فإن ما يحصل عبر هذه المنصات من تناقضات وتداخلات وازدواجية في المعايير وانحراف في النهج ونفوق في القيم التي تحفظ له توازنه وحقوقه وما تحمله من مشوهات للفكر البشري وما أنتجته الإنسانية في تأريخها المعاصر نظرا لسوء الاستغلال لها؛ أكثر خطرا وأشد إيذاء على دول العالم وشعوبه وإنسانيته من خطر كورونا لما تبثه من فكر يدق ناقوس الخطر يمجّد الأنانية ويذهب عرى الإنسانية وينذر بكارثة بشرية يتنازع البشر أهدافها ويتنافسون فيها على البقاء، وعبر استغلال العواطف وتهييج الأحقاد وزرع البغضاء والشحناء، وتأصيل مفهوم الخلاف والاستعلاء بين البشر فلا يأمن أحدهم على نفسه من الآخر، ويجد فيه ليس أخا وندا بل منافسا ونضدا، فيزيد من مساحة القلق من الذات والآخر بدلا من التصالح مع الذات والمشترك البشري، إنها تجسيد لشريعة الغاب وحياة البهيمية المسلوبة الإرادة، يستبيحون الأعراض والأنفس، ويستنزفون القدرات والتفكير، ويزرعون بذور الفتنة والفرقة والشقاق والخلاف، ومع أن هذا الواقع المؤلم يحصل أمام أعين العالم أجمع وبعلم مؤسساته الإعلامية والتعليمية والدينية والسياسية إلا أنه من المؤسف حقا أن تترك منصات التواصل الاجتماعي دون ضبطية واضحة أو قرار مسؤول أو حتى تنديد دولي بعدم قبول ذلك بما يضع حدا لهذا المنزلق الخطير الذي يؤدي إلى إنتاج ثقافة الكراهية والخوف وتكريس لغة الخلاف والأنانية والأثرة التي ستنعكس سلبا على كل مسارات العلاقات والتعاون الدولي.
ومع أن الأصل في هذه المنصات أنها فرصة يحلق من خلالها العالم في فضاءات مفتوحة لتقوية مساحات التواصل وتوفر فرصا أكبر لقراءة أحداثه والتفكير في مشتركات أوسع في مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية والوقوف على المعطيات وإنتاج الحلول وتوفير البدائل المبتكرة للكثير من الأحداث التي تهم العالم؛ إلا أنها وجهت وللأسف الشديد في غير أهدافها، وضاعت في غير مساراتها، وتخلت عن التزاماتها، حتى أصبحت عبئا يهدد الإنسانية، لتصبح من أكبر مهددات الأمن الفكري العالمي ومنغصاته بما يعكسه مشهد المواجهة التي تحملها هذه المنصات، وتدخلها في حق الشعوب في تقرير مصيرها، وما أفصحت عنه هذه المنصات ما وصل إليه الإنسان العربي من مستوى فكري وأخلاقي وسلوكي متدنٍّ، عزز من مفهوم التنمر السياسي وأعطت مساحة أوسع في الافتراءات والكذب والتهويل والقذف وانتهاك الحرمات والأعراض ومنصة للتلذذ بنقل الأخبار والمعلومات السلبية والأفكار العدائية التي أصَّلت لثقافة التنمر والكراهية والسخط والتجييش والأحكام العشوائية والابتزاز والاستفزاز والنيل من السمعة، بما يضع الشعوب والحكومات أمام رحمة هذه العصابات الإلكترونية التي باتت تدير هذه المنصات بأسماء وهمية تحمل الحقد والكراهية، أو إحداث تشويهات في إنجازات الدول، أو إدخاله في مهاترات تخرجه عن غاياته وأهدافه، وتتيح للأفكار السوداوية والأشخاص الوهمية تقويض هذا البناء، لتشكل بدورها حربا بالإنابة مدفوعة التكاليف تزج بالشباب في توجهات فكرية غير مأمونة ومساحات تفاعلية مشبوهة غير مضبوطة، خصوصا في ما يشار إليه من أن ملايين الأسماء والمسميات والألقاب التي باتت تعج بها منصات التواصل الاجتماعي وحولتها إلى قنبلة موقوتة تنفجر في أي وقت، بما تستهدفه من زعزعة الاستقرار وزيادة الشحنات السلبية لدى الشعوب في مواجهة الحكومات، في خروج عن كل القيم والأعراف والأخلاقيات والمبادئ وتجاوز خطير لكل العلاقات والاتفاقيات والمعاهدات والبروتوكولات والاتفاقيات الدولية الموجهة لحماية حقوق الإنسان وسيادة الأوطان واحترام التنوع الثقافي وتقدير الإنجاز الإنساني، وبالتالي ما يستدعيه هذا الواقع من موجهات تعزيز ثقافة احترام هذه المنصات وتقدير قيمتها المضافة لصالح الإنسانية، وتأطير لمنصات الحوار والتواصل والتعارف في كل ما من شأنه مساعدة البشرية على تجاوز خلافاتها والعودة إلى نهج التسامي فوق الخلاف وتأصيل قيمة التعددية والاختلاف طريق التكامل ونهضة الشعوب، وبالتالي التثمير النوعي في هذه المنصات وحسن توجيهها لبناء قواعد التعامل وترقية الوعي وإعادة هندسة البناء الفكري للإنسان، وترسيخ المفاهيم العالمية الداعمة للسلام والتنمية والتعاون الدولي وتوجيه الاهتمام للحلول المشتركة وتبني المبادرات النوعية وإشاعة المعرفة الإنسانية الرصينة وتقوية دور التعليم في النهوض بهذه الممكنات، والتأكيد على المشتركات الأخلاقية والمؤتلف البشري وثقافة التسامح، وفقه الاحترام والتعاون والتكاتف وحسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية وعدم مصادرة الفكر وحرية الشعوب في تقرير المصير واحترام منصات التواصل الاجتماعي وترقية القيم والأخلاقيات لتحلق في سماوات الفضاءات المفتوحة.
وعليه، كان من الأهمية أن تحظى هذه المنصات بمزيد من التقنين والتأصيل والتأطير والضبطية وحسن الإدارة، وأن تمتلك الموجهات التي تضبط مسارها وتوجه مقاصدها وتُحسن استغلالها وتثري حواراتها وتصحح أدواتها وتقنن أداءها، وتسمو بما تحمله من أهداف وغايات ورسالة فوق صيحات الخلاف وسقطات الانحراف، حتى لا تتحول إلى أداة هامدة ومعلومات خاملة، فيستغلها ضعاف النفوس ممن وجدوا في هذه المنصات طريقهم للشهرة أو سبيلهم لغرس الفتنة وتضييع الحقوق وإحداث الفرقة في الرأي وتسويق الأفكار المبتذلة والإشاعة وتعميق المذهبية، ونشر الكراهية، وتأصيل سلوك العدوان والتنمر والفوقية والسلطوية في الرأي والتشدد فيه، أو القيام بدور الوصاية على الحكومات وتزييف هوية الشعوب ومبادئها وقيمها وخصوصياتها وثقافتها وسيادتها، مع سلب المحتوى الذي تقدمه أي فرصة للتأمل والنظر والبحث والقراءة والتصحيح والمراجعة والتحليل والتفكير النقدي؛ وبالتالي أن تتجه إرادة العالم وحكمائه وقياداته إلى التفكير في التثمير الأخلاقي لهذه المنصات المعززة للمبادئ الإنسانية العليا والنهج الدولية السامية وقيمتها المضافة في استقرار الأوطان وبناء الإنسان وتحقيق الأمن وترسيخ لغة القانون والنظام وتأكيد الثوابت الإنسانية والعلاقات الدولية والتعاون القائم على أساس مبادئ الحق والعدل والمساواة، ناهيك عن قيمتها كاستثمار للفكر الرصين والحوار الهادف والنقاش البناء، وتوليد المعرفة وإنتاج المعلومة، وتعظيم قيمة المشاركة في الرأي، وتوجيهها نحو اقتصاد المعرفة والتثمير في القيمة الاقتصادية الداعمة لهذه المنصات والتي أثبتت جائحة كورونا أهميتها في مواجهة الجوائح، وتحقيق مبدأ التباعد الاجتماعي والجسدي، وتطوير بيئة الأعمال، والتسوق الإلكتروني، والتعليم عن بعد وفي ترسيخ قيم الوعي وتنشيط حضوره.
وبالتالي أن يتبنى المجتمع الدولي نهجا واضحا في قراءة معطيات منصات التواصل الاجتماعي وانعكاساتها على استقرار على الشعوب والدول، وتقييم التحديات التي باتت تفرضها على مسار الأمن والسلم الدوليين، وما تبعه من استغلال بعض الأجندة الأمنية والسياسية لهذه المنصات في التجييش الإلكتروني، لتقوم بدور الوصاية عنها في نقل التوجهات العدائية للآخر ونشر بذور الفتنة والفرق وتعريض الشباب لشبكات وهمية تعمل على استفزازهم والدخول بهم في مستنقعات الكراهية، والتكثير من المناخات التي تستهدف الصيد في الماء العكر، كمدخل للتأثير في القرار الوطني ومحاولة إحداث الارتباك في البيت الداخلي، مركزا على وقتية الفعل وسرعة الوصول إلى الهدف، مستغلا عواطف الشباب عبر الزج بقضاياهم وشحن توجهاتهم، معززا لمنطق الأنانية والتفكير في المصلحة الذاتية متناسيا حقوق الوطن عليه وحقوق الآخرين، بما يشكله ذلك من بيئات غير مستقرة تنتظر شرارة إشعالها، ويبقى التأكيد على أهمية بناء ميثاق أخلاقي عالمي يضع حدا لهذه التجاوزات التي باتت تشكلها منصات التواصل الاجتماعي واستغلالها من قبل بعض الأجندة السياسية والحزبية وانعكاسات ذلك على أمن العالم واستقراره، وفرض التشريعات والقوانين التي من شأنها الحد من هذه التوجهات، الطريق الذي يجب أن يسلك لضمان مشاركة العالم أجمع في رسم دور منصات التواصل الاجتماعي في التنمية والحوار العالمي والاستقرار والأمن وإنتاج القوة عبر تعزيز فرص الشراكات والبحث والتفاهم وتقريب وجهات النظر ووضع العالم أمام مسؤولياته في قراءة معطيات المرحلة التي يعيشها والتحديات التي يواجهها وتسليط الضوء على القضايا الأساسية التي يعاني منها، سواء ما يتعلق بجائحة كورونا أو القضايا الأخرى المرتبطة بالأمية والجوع والفقر والحروب والجهل والأمراض المزمنة والجريمة والمخدرات، والاتفاق على موجهات تعيد الثقة في منظومة العمل الدولية وآليات عملها لبناء منصات أكبر لترقية الوعي الاجتماعي وترسيخ المسؤولية العالمية في الحد من الممارسات التي باتت تهدد الكيان البشري وتؤسس لصراع الثقافات.
أخيرا، فإن التحصين الذاتي والبناء الفكري للمواطن وتوفير ممكنات الجاهزية الفكرية والنفسية والأدائية له، الطريق في التقليل من مخاطر هذه المنصات وإثبات بصمة حضور فاعلة تتناغم مع النهج العماني والرؤية في إدارة المحتوى الشبكي والتقني، كما لم تعد مسألة التعاطي مع هذه المنصات والحد من هذه التجاوزات والوقوف على ما تبثه من سموم وكراهية وأحقاد مسؤولية مركز الدفاع الوطني أو مركز السلامة المعلوماتية أو المؤسسات الأمنية والمدنية فقط، بل هي مسؤولية كل مواطن ومقيم على هذه الأرض الطيبة بأن يصنع من نفسه نموذجا وقدوة في الحفاظ على هويته ومبادئه وأخلاقياته في ردوده على التغريدات أو نشره لما يبث من عداوات وكراهيات وأحقاد وضغائن وسباب وشتم يطول قيادات الوطن ورموزه أو يتعرض للسياسة العمانية، فيقف على هذه الأحداث بأصالة عمانية تتجاوز كل مسببات الانحراف الفكري وتلتزم أخلاق العمانيين وحكمة قيادتهم ودبلوماسية السياسة العمانية، متجاوزين الخوض في مثل هذه التفاهات، بالامتناع عن المشاركة فيها والحد من الانخراط في الحديث عنها وعدم إعطاء التافهين والأقزام من مشاهير منصات التواصل الاجتماعي (السوشل ميديا) أو أصحاب بعض الصفحات والأسماء الوهمية أو المتسترة تحت بعض الشخصيات والأسماء المعروفة أكبر من حجمهم، والحد من تناقل تغريداتهم أو أحاديثهم في الوسائط المختلفة، ومنع انتشار مثل هذه الظواهر خصوصا مع تزايد عددها في الفترة الأخيرة في ظل ما تلقاه من دعم مادي مدفوعة التكاليف، أو دعم معنوي عبر اهتمامات المتابعين لهم والمشاركات التي تزيد من حمق القائمين على هذه الصفحات بزيادة التغليظ في تفاهة ما ينشر من محتوى وسيل الردود الجارفة التي تتلقاها والتي يغلب عليها الاندفاع والسب والشتم، كمن يلقي البذرة في أرض خصبة ليأتي آخر الوقت ليقطف ثمر ما بذر، وهكذا الحال مع فارق التشبيه فيما يقوم به أصحاب هذه الحسابات الوهمية من نشر بذور الفتنة والشقاق والاختفاء النهائي فور بذر السموم، ليترك المساحة الفضائية أمام صراع الشباب الفكري والتنابز الطائفي والديني والعقدي والأيديولوجي للرد عليها دون انتظار أي رد أو تشخيص أو تحليل أو تعقيب أو توفير للأدلة والحج والمؤشرات والإحصائيات وغيرها سوى أنهم يجنون بكل برودة أعصاب نتائج حقدهم وكراهيتهم عبر توجيه الشباب والمتابعين لهم لصراعات داخلية وقناعات سلبية وأفكار عدوانية مما باتت تعاني منه المجتمعات والدول وينذر بكارثة بشرية قادمة تخلل ميزان التوازن البشري إن لم يتنبه المصلحون من هذا العالم لهذا الأمر ويعيدوا توجيه هذا المسار.
د. رجب بن علي العويسي