كانت أوروبا لا تزال في عصورها المظلمة في 25 نوفمبر 1095 ميلادية ، عندما وقف البابا أوربان الثاني ليعلن بداية الحملات الصليبية ، ونادي بحرب مقدسة ضد الإسلام ، مشيراً إلي أن الأتراك السلاجقة ذلك الجنس المتوحش البربري الذي أشهر إسلامه مؤخراً قد زحف إلي إنطاكية وأستولي علي الاراضي التي تخص الإمبراطورية البيزنطية ، وناشد أمراء أوروبا كي يتوقفوا عن القتال فيما بينهم ، وأن يتحدوا ضد أعداء الرب ، وهتف البابا موضحاً : ” أن الأتراك ، جنس ملعون ، لا يعرف الرب ، وأن قتلهم هو واجب مقدس لكل المسيحيين ، وبمجرد تطهير آسيا الصغري من هذا النجس الإسلامي ، فأن النبلاء يجب أن يستمروا في مهمة أكثر قداسة ، بتحرير مدينة القدس من الكفار ، فمن العار أن يكون قبر المسيح بين أيادي المسلمين ” .
وقبل أن يبدأ الحجاج مهمتهم المقدسة في الحملة الصليبية الأولي ( وكما فعلوا ذلك في الحملات التالية ) ، قاموا بذبح الجماعات اليهودية الموجودة في أوروبا ، بالضبط كما فعلوا عندما دخلوا القدس أول مرة عام 1099 ليذبحوا كل من فيها من المسلمين واليهود ، ومن المثير للدهشة أنهم فعلوا نفس الشيئ تقريباً مع المسيحيين المختلفين معهم في المذهب في الإمبراطورية البيزنطية !! ..
وفي 17 نوفمبر 1207 ، قام أحد البابوات ( إنوسنت ) بكتابة خطاب إلي الملك فيليب أوغسطس يرجوه فيه أن يقوم بقتل المسيحيين الذين أختلفوا مع الكنيسة الكاثوليكية ، وعندما توجه الجيش لقتل هؤلاء المختلفين ، أبدوا رغبتهم بالتسليم للبابا ، إلا أنه رفض ، وعندما أستسلم أهل المدينة المحاصرة تساءل قادة الجند المنتصرين عن كيفية التفريق بين المؤمنين والكفار في الأسري ، وجاءتهم إجابة قائدهم : ” إقتلوهم جميعاً ، والرب سوف يعرف من يختص بهم ” .. وبالفعل تم ذبحهم جميعاً ..وكانت تلك بداية الحروب المقدسة التي أشتعلت فيما بعد في أوروبا بين الكاثوليك والبروتستانت .
وفي عام 1227 قام البابا جريجوري التاسع بإصدار مرسوم ينص علي أن المسلمين واليهود الذين يعيشون في الدول المسيحية يجب أن يرتدوا ملابساً تميزهم عن المسيحيين ، كما يجب علي المسلمين واليهود أن يلزموا منازلهم في الأعياد المسيحية حتي لا يلوثوا قداسة اليوم ، كما لا يجوز أن يتقلدوا منصباً عاماً ، كما يجب علي المسلمين ألا يؤذوا آذان المؤمنين المسيحيين بصوت المؤذن للصلاة ..
إلا أن الحرب المقدسة لم تكن ملكية خاصة للكاثوليك فقط ، فقد آمن بها البروتستانت كذلك ، ويكفي هنا أن نشير إلي ” لوثر ” مؤسس البروتستانتينة كان يري ضرورة ذبح كل الفلاحين الذين يتمردون ، وبأن البابا هو عدو الله ، وقد أعتبر أن ” المحمديين ” ( المسلمين ) يمثلون الشر مثلهم مثل البابا تماماً ، بحيث تكون ” روما ” هي رأس عدو الله ، بينما المحمديين هم جسد ذلك العدو ، كما كتب تحت عنوان ” حول اليهود وأكاذيبهم ” ان اليهود يجب أن يعزلوا تماماً عن المسيحيين ، وتدمر منازلهم ، بحيث يعيشون جميعاً تحت سقف واحد ويكلفون بالأشغال الشاقة ، كما يجب إحراق معابدهم وكتبهم المقدسة ..
***
” كان لدي الرب حلم ، ومهمة إسرائيل هي تفسير هذا الحلم ” ، هكذا قال إبراهام هيسكل ، أحد الصهاينة الأمريكيين بعد حرب 1967 ، حيث أعتبر أن نصر إسرائيل هو مثل آخر لإستمرار علاقة الحب بين الرب وبين شعبه ، وتطبيقاً للعهد الإنجيلي ، بينما قال موشيه دايان خلال نفس الفترة ، عندما دخل مدينة القدس القديمة لأول مرة : ” لقد عدنا إلي كل ما هو مقدس في أرضنا ، ولن ننفصل عنها مرة أخري ” ..وفي يوم 3 أغسطس 1967 ، وعلي جبل الزيتون ، المكان الذي يفضل اليهود أن يدفنوا فيه لأنهم يعتقدون أن المسيح سوف يصل هناك وسيكون المدفنون في تلك البقعة أول من يبعثون من موتهم لإلقاء التحية عليه ، فوق هذا الجبل وقف ديان ليقول : ” يا إخواننا الذين قاتلوا في حرب الإستقلال ، لم نتخل عن أحلامكم ، ولا نسينا الدرس الذي علمتموه لنا .. لقد عدنا إلي الجبل ، مهد تاريخ الأمة ، عدنا إلي أرض أجدادنا ، أرض القضاة ، إلي قلعة أسرة داود . لقد عدنا إلي الخليل ، ويبت لحم وأريحا … يا أخواننا ، أننا نحمل دروسكم معنا .. ” …
بينما قالت سيدة يهودية أمريكية هاجرت حديثاً إلي إسرائيل بعد حرب العبور ، وانضمت لأحد أحزاب اليمين المتطرفة : ” في حرب الستة أيام ، وكذلك في حرب يوم كيبور ايضاً ، كان ينبغي علينا ألا نتوقف ، كان يجب أن نستمر حتي نرغمهم علي الإستسلام التام ، ندمر عواصمهم ، من يهتم بما يصرخ به الأغيار ( الجوييم أي غير اليهود ) ..أنها حرب دينية ، حرب مقدسة لهم ولنا ، فهي حرب ضد الإسلام ، وهي حرب ضد كل الأغيار ” …
في سفر التكوين ، عقد الرب مع إبراهيم عهداً ، وقال له : ” لأبنائك من بعدك ، تكون الأرض من نهر مصر النهر العظيم إلي نهر الفرات ، وأرض الكنعانيين … “
***
يتعلم الناس في الغرب ، أن ” الصليبيين النبلاء قاموا بذبح الكفار أثناء حروبهم المقدسة “
ويقول التاريخ أن هؤلاء الصليبيين بدأوا تحت إسم ” الحجاج ” Pilgrims الذين نقشوا الصليب علي ملابسهم أخذاً بأمر المسيح بأن يحملوا صلبانهم ويتبعوه حتي الموت ، وخلال الحملة الصليبية الأولي أتجه بعض الأنجليز إلي فرنسا للإنضمام إلي الجيوش الصليبية ، ولكنهم لم يكونوا يعرفون كلمة فرنسية واحدة تتيح لهم تعريف أنفسهم ، فأشاروا بأصابعهم بعلامة الصليب ..
” إلي جوار أنهار بابل ، جلسنا وبكينا عندما تذكرنا صهيون .. لقد قيل لنا ” انشدوا بعض أناشيد صهيون ، كيف ننشد أناشيد “يهوا” في بلد الكفار .. يا قدس ، إن نسيتك فلتقطع يميني ، وليقطع لساني ، إن نسيتك ولم تعد القدس أغلي أفراحي .. طوبي للذي يعاملك يا بابل كما عاملتنا ، طوبي له الذي يحمل أطفالك ويضرب بهم الصخر !! ” …الإصحاح 137 .
***
أن روح ” الحروب الصليبية ” لا تزال هائمة حيث تتبدي وتتبدد حيناً بعد حين ، تتقمصها رغبة الدمار حين تتوفر الظروف الملائمة لها كي تظهر برأسها ” المقدسة ” تخاطب في الإنسان أبشع غرائزه متخفية وراء أستار من الدين .. أنها هناك في أعماق الأجيال التي ورثت في ثقافتها وجيناتها أكاذيب تاريخية لم تنجح آلاف الكتب في تصحيحها ، وليس من الواضح أن آلاف الندوات والمؤتمرات سوف تمحوها ، فهي جزء أصيل من التكوين الحضاري للغرب رغم مظاهر العلمانية والمعلوماتية .
وربما يمكن نظرياً الفصل بين ” الدين ” و ” السياسة ” ، في نصوص دستورية وتطبيقات قانونية مختلفة ، ولكن هل يمكن الفصل بين ” الدين ” و ” الإنسان ” ؟ .. بل هل يمكن سلخ العادات المكتسبة والأساطير الموروثة في الدين عن سلوك أي إنسان ؟ .. أن التاريخ والواقع يجيبان بالنفي ، فالإنسان – أي إنسان – هو جماع موروثه الثقافي الذي يلعب فيه الدين دوراً كبيراً .
ليس هذا فحسب ، بل أن بعض الأساطير التي تلحق ببعض الأديان تصبح جزءاً لا يتجزأ من التكوين الثقافي للإنسان ، وليس أدل علي ذلك من السطور السابقة التي اشارت إلي بعض مظاهر الحروب الصليبية ، ففي أي نص أنجيلي يمكن أن نجد ما يبيح القتل والدمار والوحشية ، ليس فقط ضد غير المسيحيين بل وبين المسيحيين أنفسهم ؟ ، أن تحـــريم ” القتل ” هو أحد العوامل المشتركة بين كافة الأديان السماوية ، فكيف نفسر ذلك ؟ ..
***
أن ما يسمي بالحرب المقدسة أكبر من أن يحتويه مقال واحد ، وإنما أردت فقط أن ألقي الضوء علي بعض مظاهرها كي أوضح أن كل ” حرب مقدسة ” قد اثارت ضدها ” حرباً مقدسة ” أخري ، والتاريخ ممتلئ بصورها الدامية ، وإذا كان ” صلاح الدين ” قد نجح في شن ” حرب مقدسة ” كي يطهر القدس من الصليبيين ، فأنه بعد ذلك استمرت الحروب الصليبية بلا توقف ، بل واستمرت آثارها إلي العصور الحديثة ، وحين أفلتت كلمة ” حرب صليبية ” من لسان ” بوش ” ، بدا وكأن الناس قد أصابتهم الصدمة ، رغم أن الرئيس نفسه ذكر غير مرة أنه يتلقي إلهامه من أعلي ( من السماء ) ، كما أنه حفيد أولئك الطاهرين الذين هربوا من الإضطهاد الديني في أوروبا كي يصنعوا مجتمعاً جديداً في ” أرض الميعاد” بأمريكا ، ووجدوا المبرر الديني لقتل أهل الأرض الأصليين وإبادتهم بإسم الرب .. أي أن الرجل لم يخرج عن طبيعته الموروثة ..
نفس الأمر ينطبق علي الحركة الصهيونية ” العلمانية ” ، فرغم كل ما قيل عن إنفصالها عن الدين ، فأنها وفي العمق منها تستلهم ” المقدس ” أو تستخدمه لأغراضها السياسية ، وليس هناك من هو أكثر ” علمانية ” من موشيه دايان ، وقد قرأنا بعض أناشيده علي أطلال القدس ، أنها ” حرب دينية ” مهما بالغ البعض في تلوينها بالتاريخ والسياسة والفلكلور .. أنها حرب لا نهائية طالما استمرت هالات القداسة مرتبطة بالأرض .. فالأرض أشد قداسة من روح الإنسان .. والأساطير تصبح أشد قداسة من نصوص الكتب المقدسة .
وأخيراً ، قيل كثيراً أنه ينبغي علي دول الشرق الأوسط أن تنقي مناهجها الدراسية من النصوص التي تحض علي الكراهية والعنف .. وأتساءل عن كيفية تنقية بعض النفوس في الغرب وإسرائيل من ميراث دموي أختلطت فيها الأساطير بالنصوص المقدسة ؟
الأستاذ السفير/ معصوم مرزوق – مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق